انتخابات بلا رقابة ومجتمع مدني تحت الضغط.. تقرير دولي يرصد التدهور الحقوقي في جورجيا
انتخابات بلا رقابة ومجتمع مدني تحت الضغط.. تقرير دولي يرصد التدهور الحقوقي في جورجيا
في أجواء استقطاب سياسي غير مسبوق، ووسط انتقادات واسعة من منظمات دولية وأممية، تشهد دولة جورجيا منذ سنوات تراجعًا مقلقًا في مؤشرات حقوق الإنسان والديمقراطية، ومع اقتراب موعد الانتخابات البلدية في أكتوبر 2025، حذّرت دول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا من "تدهور خطير" في الوضع الحقوقي، مشيرة إلى القمع المتزايد ضد المعارضة والمجتمع المدني والصحفيين، وتأتي هذه الأزمة في وقت تتطلع فيه جورجيا إلى تعزيز مسارها نحو الاتحاد الأوروبي، ما يجعل الفجوة بين التطلعات الشعبية والواقع السياسي أكثر وضوحًا وإيلامًا.
تاريخ جورجيا الحديث مشبع بصراع الهوية بين الماضي السوفيتي والطموح للاندماج في الاتحاد الأوروبي، فمنذ "ثورة الورود" عام 2003، تعهدت الحكومات المتعاقبة بالإصلاح الديمقراطي، لكن مسار الإصلاح تعرقل مرارًا بسبب النزاعات الداخلية، خاصة بعد حرب 2008 مع روسيا، وأدت الانقسامات السياسية العميقة واحتكار السلطة من قبل الحزب الحاكم إلى ضعف المؤسسات الديمقراطية، هذه الخلفيات التاريخية تفسر كيف أصبحت البلاد اليوم رهينة استقطاب سياسي يعطل مسار الحقوق والحريات.
الانتخابات في قلب العاصفة
بيان صادر عن المملكة المتحدة وفق موقع الحكومة الرسمي و36 دولة في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في سبتمبر 2025 شدد على أن رفض جورجيا دعوة المنظمة لمراقبة الانتخابات البلدية المقبلة يمثل "انتكاسة خطيرة"، فمنذ استقلالها، التزمت جورجيا بالسماح للمنظمات الدولية بمراقبة الاستحقاقات الانتخابية لضمان النزاهة، غياب الرقابة هذه المرة يعزز المخاوف من التلاعب ويضعف ثقة الجمهور في العملية السياسية، كما أثارت التعديلات الأخيرة على القوانين الانتخابية مخاوف بشأن الشفافية، لتصبح الانتخابات المقبلة اختبارًا حاسمًا لمستقبل الديمقراطية في البلاد.
المعارضة خلف القضبان والمجتمع المدني تحت الضغط
التدهور الحقوقي لم يقتصر على الملف الانتخابي، بل شمل تضييقًا واسعًا على المعارضة السياسية والمجتمع المدني، وقد أشارت تقارير منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" إلى زيادة الاعتقالات التعسفية بحق قادة المعارضة والمتظاهرين، وقد شكل الحكم على الصحفي البارز مزيا أماغلوبيلي بالسجن لعامين صدمة في الأوساط الإعلامية، ورمزًا لتراجع حرية الصحافة، كما وثقت منظمات محلية تعرض ناشطين مدنيين لمضايقات وتهديدات، ما يعكس محاولة منهجية لإسكات الأصوات الناقدة.
قضاء يفتقر للاستقلالية
من أبرز التحديات التي أوردتها تقارير أممية ومنظمات أوروبية مسألة استقلال القضاء، فأحكام السجن الأخيرة بحق متظاهرين ومعارضين وُصفت بأنها "غير متناسبة"، ما يعزز الاتهامات باستخدام القضاء كأداة سياسية، وكان الاتحاد الأوروبي قد ربط في تقاريره السنوية بين إصلاح القضاء وإمكانية تقدم جورجيا في مسار العضوية الأوروبية، غير أن غياب الإرادة السياسية للإصلاح يجعل مصداقية المؤسسات القضائية في مهب الريح، ويقوض مبدأ سيادة القانون.
الصحافة الحرة: صوت مهدد
تدهور حرية الإعلام يمثل أحد أبرز مؤشرات الأزمة. منظمة "مراسلون بلا حدود" صنّفت جورجيا في تقريرها لعام 2025 في مرتبة متراجعة مقارنة بالسنوات السابقة، مشيرة إلى اعتداءات متكررة على الصحفيين وتقييد الوصول إلى المعلومات، والحكم على صحفيين مستقلين، وإغلاق بعض المنصات الإعلامية المعارضة، يعكس توجهًا لتقويض التعددية الإعلامية التي تشكل ركيزة أساسية للديمقراطية.
الشارع بين الغضب والأمل
الاحتجاجات الشعبية باتت مشهدًا متكررًا في العاصمة تبليسي ومدن أخرى، المتظاهرون يطالبون بحماية الديمقراطية وضمان الحريات الأساسية، لكن السلطات غالبًا ما ترد باستخدام مفرط للقوة، ووثقت المنظمات الحقوقية حالات استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريق المظاهرات، ورغم القمع، يؤكد مراقبون أن الشارع الجورجي لا يزال متمسكًا بمطلبه الأساسي وهو الانفتاح الأوروبي وحماية الحقوق الدستورية.
الإطار القانوني الدولي
من منظور القانون الدولي، تُعد جورجيا ملتزمة بعدد من الاتفاقيات، منها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، لكن الفجوة بين الالتزامات الدولية والممارسة الفعلية تتسع، وهو ما دفع المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان إلى مطالبة السلطات الجورجية بـ"التقيد الكامل بالتزاماتها الدولية"، كما أعادت دول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا التذكير بمبدأ "عدم التراجع" عن الحقوق المكتسبة، محذرة من أن استمرار الأزمة قد ينعكس سلبًا على مكانة جورجيا الدولية.
أرقام وإحصاءات مقلقة
بحسب بيانات منظمات حقوقية محلية ودولية: نحو 50 حالة اعتقال تعسفي وثقتها منظمات محلية منذ بداية 2025، كما تراجع مؤشر حرية الصحافة للجنة حماية الصحفيين بنسبة 12% خلال العام، بجانب أن أكثر من 30 منظمة مجتمع مدني أبلغت عن تعرض أعضائها لمضايقات أو تقييد لأنشطتها.
وفق استطلاع للرأي أجراه "المعهد الوطني الديمقراطي"، عبّر 62% من الجورجيين عن "عدم ثقتهم" في نزاهة الانتخابات المقبلة.
التداعيات الإقليمية والدولية
الأزمة الحقوقية في جورجيا لا تقتصر على الداخل، فمن ناحية، يثير التراجع الحقوقي قلق الاتحاد الأوروبي الذي كان قد منح جورجيا وضع المرشح للعضوية بشروط إصلاحية صارمة، ومن ناحية أخرى، ترى موسكو في الاضطراب الداخلي فرصة لتعزيز نفوذها في منطقة القوقاز، وهذا الوضع يجعل الملف الحقوقي جزءًا من صراع أوسع بين الشرق والغرب، حيث تشكل الديمقراطية في جورجيا نقطة محورية في معادلة التوازن الإقليمي.
المجتمع الدولي: دعوات للحوار وفرص ضائعة
البيان المشترك لـ37 دولة في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا دعا السلطات الجورجية إلى "فتح حوار وطني شامل" يشمل جميع الأطراف، باعتباره السبيل الوحيد لتجاوز الأزمة، غير أن السلطات لم تُظهر حتى الآن استعدادًا كافيًا للتجاوب، ما يجعل فرص الإصلاح تضيق مع مرور الوقت. المفوضية الأوروبية ومكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان أبديا استعدادًا لتقديم الدعم الفني، لكن الخطوة الأولى يجب أن تأتي من تبليسي عبر إبداء حسن نية حقيقي.
مفترق طرق حاسم
تجد جورجيا نفسها اليوم عند مفترق طرق: إما الانخراط في إصلاح حقيقي يعزز حقوق الإنسان ويضمن استقلال القضاء وحرية الإعلام، وإما الانزلاق أكثر في دوامة الاستبداد وتآكل الديمقراطية، الشعب الجورجي، الذي أظهر مرارًا تمسكه بالطموح الأوروبي، يقف في مواجهة واقع سياسي لا يعكس آماله، وبين ضغوط المجتمع الدولي وتطلعات الداخل، يبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت القيادة السياسية ستغتنم الفرصة لتصحيح المسار، أم أن جورجيا ستخسر عقدًا آخر من الديمقراطية والحقوق.